أصبح أيّ حدث سياسي أو أمني في لبنان، أيًّا كان حجمه، حمّالًا لرسائل ودلالات كثيرة مرتبطة كلّها بمحاولة القوى الإقليمية الكبرى، لا سيّما إيران وتركيا، خاصة في هذه اللحظات السياسية والأمنية شديدة التعقيد، لبنانيًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
وفي هذا السياق برز حدثان، أحدهما أمني والآخر سياسي، تمثل الأول بالإشكال المسلح الذي حدث مند عدة اشهر بالطريق الجديدة في بيروت، إذ تقول مصادر وزارية إن تركيا تحاول دخول لبنان بطريقة رسمية، حيث صرحت مصادر عليا في تركيا إنه هناك بعض التوجيهات من الرئيس أردوغان بمنح الجنسية التركية للأتراك والتركمان الذين يعيشون في لبنان وليس لديهم الجنسية التركية، بسبب ما عانوه خلال السنوات الماضية، وكان آخرها انفجار مرفأ بيروت الكبير.
وتتابع هذه المصادر أن التدخل التركي لم ولن يقتصر فقط على إعطاء الجنسية، فالتركي يريد التدخل بطريقة غير رسمية أيضًا، عبر دعم مجموعات قريبة من "الإخوان المسلمين" في لبنان، وما هي حادثة الطريق الجديدة سوى تغلغل تركي في مجموعات لبنانية تدعمها ماليًّا لتعزز أنقرة نفوذها على الساحة اللبنانية.
الحدث الآخر سياسي، جاءت زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" اسماعيل هنيّة لبيروت، وهي زيارة تعكس في توقيتها وبرنامجها ومواقفها خصائص اللحظة اللبنانية والإقليمية والدولية الراهنة بكلّ تشعّباتها وتداخل ملفاتها، من المبادرة الفرنسية في بيروت والمواجهة الفرنسية – الأوروبية المتصاعدة مع تركيا في المتوسّط، إلى المواجهة الإيرانية الأميركية المتواصلة في المنطقة ومحاولة فرنسا بغطاء أوروبي التخفيف من حدّتها وانعكاساتها على البلدان التي تشكّل ساحة أساسية لها مثل لبنان، لكن وفق استراتيجية محسوبة لا تصطدم باستراتيجية "الضغوط القصوى" التي تتّبعها واشنطن ضدّ طهران.
تقول مصادر امنية، ليس قليل الدلالة أن يصل هنيّة إلى بيروت آتيًا من تركيا، وقد استُقبل في العاصمة اللبنانية من جانب "حزب الله"، أي من قبل الفريق الإيراني، وهو ما يعكس تقاطعًا تركيًّا إيرانيًّا حول هذه الزيارة من ضمن التقاطعات الإيرانية التركية الكثيرة في المنطقة، وقد كان أبرز دليل على هذا التقاطع اللقاء الذي جمع هنية بالأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله، وهو الأوّل على هذا المستوى بين قيادتي الحزب والحركة منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011.
والحال، فإنّ أي قراءة موضوعية للزيارة يجب أن تنطلق من نقطة أساسية هي المبادرة الفرنسية في لبنان، وذلك لأنّ الجانبين التركي والإيراني معنيان بها كلّ وفق حساباته، فأنقرة تريد أن تبعث من خلال هنيّة برسالة إلى باريس مفادها أنّ لبنان الذي تسعى فرنسا لتأكيد نفوذها فيه من خلال محاولة إنقاذه من أزمته الضخمة، يمكن أن يكون ساحة إضافية بالنسبة لتركيا، لمضايقة باريس على ضفاف المتوسّط.
يذكر أن المرصد السوري لحقوق الإنسان، كشف في وقت سابق عن أن "الاحتلال التركي في شمال سورية أرسل مئات المرتزقة المنضوين في صفوف فصيلي (أحرار الشرقية وتنظيم حراس الدين) التابعين لأنقرة، إلى مدينة طرابلس اللبنانية عبر شركة صادات الأمنية التركية"، وتأتي المعلومات الواردة في تقرير المصدر تزامنًا مع ما كشفت عنه مصادر إعلامية ومسؤولين أمنيين في لبنان من معلومات تحذر من أن تركيا ترسل أسلحة إلى لبنان عبر سورية، في محاولة من الحكومة التركية للاستفادة من الفراغ السياسي والأمني في البلاد عقب انفجار مرفأ بيروت.
تكثر التحليلات ونظريّات المؤامرة عن الدور التركي مع غياب المعلومات الوافية والأدلّة الملموسة والمعلنة عن أهدافها ومصالحها. فهل تسعى تركيا إلى التوسّع في لبنان وتحقيق مكاسب سياسيّة؟ أم إلى ملء الفراغ على الساحة السنيّة؟ وهل لبنان هو جزء من مشروع تركي محتمل في المنطقة والذي ظهرت معالمه من خلال التدخّل التركي الملحوظ في سوريا؟
وفي نفس السياق تتداول أوساط سياسية معلومات عن سعي تركيا للتدخل في لبنان مثلما فعلت في سوريا والعراق وليبيا واليمن وقطر والصومال، وتستثمر في ذلك المكوّن السّنيّ المتمثل بجماعة "الإخوان المسلمين" والأقليّة التّركمانيّة. وأن الأزمة السياسية والاقتصادية التي يمر بها لبنان حالياً قد تكون أرضية خصبة لهذا التمدد ولاسيما انطلاقاً من ساحة شمال لبنان عامة ومدينة طرابلس خاصة.
و ممّا لا شكّ فيه أنّ الرئيس التركي يسعى إلى تعزيز موقع تركيا كإحدى القوى الإقليميّة الكبرى ولكن الحديث عن استعادة أمجاد الامبراطوريّة العثمانيّة، فيه من السطحيّة كما الخيال، فالقدرات التركيّة على مختلف الأصعدة لا تسمح لها في هذه المرحلة بالتوسّع أو “التمدّد” وحتّى لو أراد الجانب التركي الإيحاء بذلك.
قبل أي مسؤول لبناني، سارع السفير التركي في لبنان هاكان تشاكل إلى تفقّد مدينة طرابلس ومعاينة الأضرار التي لحقتها عقب الاحتجاجات الأخيرة. تركيا وعبر سفيرها في لبنان تبنت إعادة تأهيل المباني المتضرّرة، لا سيّما مبنى البلديّة الأثري، وأعلن تشاكل عن استعداد بلاده لتقديم مساعدات للعائلات الأكثر فقراً في المدينة.
تعليق