لم يكن اتخاذ خيار الهجرة من مدينة تعشق تفاصيلها سهلاً لكنّه "الخيار الأفضل لك ولأطفالك إن كنت ترغب بتأسيس عائلة", مع بدء معالم الانهيار الاقتصادي، الأسوأ في تاريخ البلاد. وعلى وقع التظاهرات الشعبية التي انطلقت في الشهر اللاحق ضد السلطة السياسية المتهمة بالفساد، عاينت عشرات المتظاهرين الجرحى، ليبدأ بعدها تدفّق مصابي كورونا.
وشكّل انفجار المرفأ في 4 آب/أغسطس، الذي خلّف أكثر من مئتي قتيل و6500 جريح، الفاجعة الأكبر. عندما تتذكر اللحظة، تقول وهي تغالب دموعها "سقط السقف علينا", وبعد الانفجار تدفق مئات الجرحى إلى المستشفى وخلفهم عائلات مذهولة تسأل عن أحبائها. وبعد ساعات، علمت الطبيبة أن منزلها قد تضرر أيضاً جراء الانفجار، كما هي حال العديد من أحياء العاصمة حيث فاقم الانفجار الأزمة الاقتصادية التي لم توفّر أي شريحة، وترافقت مع أزمة سيولة وتدهور العملة المحلية التي خسرت نحو تسعين في المئة من قيمتها مقابل الدولار.
وعلى غرار المواطنين كافة، تقلّصت قيمة رواتب العاملين في القطاع الطبي، ووجدوا بين ليلة وضحاها أنّ مدخراتهم عالقة جراء قيود مصرفية مشددة, وباتت معاناة الأطباء الذين يعملون في القطاع العام أو على حسابهم الخاص أكبر، مع تقشف في موازنة المستشفيات المنهكة من جهة، وتراجع قدرة المرضى على ارتياد العيادات الخاصة من جهة أخرى، مع فقدان عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من مصادر دخلهم.
ولم تنجح القوى السياسية، جراء الانقسامات وصراع النفوذ، من تشكيل حكومة منذ الصيف الماضي، لتباشر بتطبيق خطة إنقاذ للحدّ من السقوط الاقتصادي الحر, ويقول نقيب الأطباء البروفيسور شرف أبو شرف لفرانس برس إن هجرة الأطباء ازدادت بشكل لافت منذ انفجار المرفأ الذي أخرج مستشفيات عن الخدمة ودمّر عيادات خاصة.
ويقدّر عدد من غادروا منذ أواخر عام 2019 بألف طبيب، أي ما يعادل عشرين في المئة على الأقل من إجمالي الأطباء. كما غادر عدد مماثل من الممرضات والممرضين، وفق تقديرات نقابتهم, ويحذّر من أنّه "اذا استمرت مغادرة الأطباء بهذا الشكل، واحداً تلو الآخر، فسيشكل ذلك كارثة"، خصوصاً أنّ "أكثريتهم كفاءات عالية" لا يمكن سدّ الفراغ الذي يتركونه سواء كان في علاج المرضى أم تدريب الأطباء الجدد.
تشكّل دول الخليج وجهة رئيسية للأطباء والممرضين المغادرين، بالإضافة الى دول أوروبية خصوصاً فرنسا وكذلك الولايات المتحدة, واذا كان بعضهم، خصوصاً من توجهوا إلى الخليج، قد يعودون عندما تتحسّن الأمور، إلا أنّ غالبية من يهاجرون إلى دول الغرب فقدوا الأمل ولا يخططون للعودة. ويبدي أبو شرف أسفه لكون "الغرب سيستفيد منهم في وقت نحن بأمس الحاجة إليهم".
ويقول أطباء إن الهجرة الطبية الجماعية غير مسبوقة. في تغريدة على تويتر قبل أيام، كتب رئيس لجنة الصحة النيابية الدكتور عاصم عراجي "خلال عملي كطبيب متمرن في الثمانينات في مستشفى الجامعة الأميركية، كانت رائحة الموت في كل شارع وحي (..) لم يترك إلا القليل من الأطباء وصمد الجسم الطبي في كل مستشفيات بيروت والمناطق".
ورأى أن الهجرة حالياً ليست ناتجة عن عوامل اقتصادية فحسب، بل أيضاً بسبب "اليأس من الطبقة السياسية".
تعليق